الذّبابة والإنسان

   أُخبرت الذّبابة أنّ الإنسان سيّد الحيوانات جميعًا، فأتت إليه يومًا وحامت حوله، ثم حطّت قبالته، وقالت:

  - أيّها الإنسان، أنت عظيمٌ وقادرٌ، فهل لك أن تمنحني ذنَبًا كما منحت غيري من سائر الحيوان؟

   فأجابها الإنسان:

- ما لكِ والذّنب أيّتها الذّبابة الصغيرة؟ دعيه لغيرك ولا تنشغلي به.

   قالت:

- لقد زيَّنْتَ كلّ حيوانٍ بذنبٍ، فلماذا تريد أن أُحْرَم وحدي من هذه الزّينة؟

   فضحك الإنسان من الذّبابة وقال لها:

- أُقسم لك أنّ أذناب الحيوانات الّتي ذكرتها، ليست مخلوقةً للتجميل والزّينة فقط، كما ادّعيت، بل لضرورةٍ اقتضتها حياتها في معاشها والدّفاع عن نفسها.

   غضبت الذّبابة من الإنسان، وأخذت تدندن وتوَزوز وتحوم حول وجهه وتضايقه، ووقعت على قرص الحلوى الموضوع في قصعةٍ قربه ثمّ جثمت على وجهه ولسعته وانتقلت إلى أذنه اليمنى فاليسرى، وقرصته حتّى حار في أمرها؛ وأخيرًا أجابها إلى طلبها قائلًا لها:

- حسنًا يا ذبابة، ليكن ما تريدين! طيري إلى السّهل والجبل والغابة وضفّة النّهر؛ وأينما وجدت حيوانًا ذا ذنبٍ يستعمله للتزيُّن به، فاطلبيه منه لأنّني قد سمحت لك به.

   سُرَّت الذّبابة سرورًا كبيرًا وشكرت الإنسان، وخرجت من النّافذة المفتوحة وظلّت طائرة حتّى وصلت إلى سهلٍ فسيحٍ، فرأت على حائطٍ بزّاقةً مادّةً قرنيها تزحف ببطءٍ، فاقتربت منها قائلةً:

- أعطيني ذنبك أيّتها البزّاقة، لأتّخذه زينةً لي كما اتَّخَذْتِه أنتِ من قبل، فردّت عليها البزّاقة بقولها:

- هل فقدت عقلك، فأصبحت لا تفكّرين؟ انظري إليّ جيّدًا، فليس لي ذنبٌ أبدًا، وليس لي يدان ولا رجلان، وإنّني أزحف على جسدي كما ترين!

   رضِيَت الذّبابة بجوابها وتابعت طيرانها حتّى وصلت إلى نهرٍ، فرأت فيه سمكةً وسرطانًا، فنادت الأولى:

-أيّتها السّمكة، هِبيني ذنبك الّذي تتزيّنين به!

   فالتفتت إليها السّمكة وأجابتها هكذا:

- "لقد أخطأت أيّتها الغبيّة؛ إنّ ذَنَبِي هذا هو مِقودي، يساعدني في أن أسبح؛ فإنْ أردت الذّهاب إلى اليمين أدَرْتُه إلى اليسار وإن شِئْتُ المضيّ إلى اليسار فبالعكسِ؛ لهذا لا يسعني أن أهبك ما تطلبين منّي".

   قنعت السّائلة وتوجّهت إلى السّرطان وطلبت منه ما طلبت من جارته السّمكة فتعجّب منها وقال:

- "إنّ ذَنَبِي القويّ، معتمدي في السّباحة".

   وضرب به الماء وانساب، ثمّ دار والتفت إلى الذّبابة ثانيةً وقال:

- "هكذا أسبح وأغوص، ولولا ذَنَبي لما قدِرت على ذلك لأنّ أرجلي دقيقةٌ جدًّا، فكيف أعطيك ذنَبي"؟

   وتركته الذّبابة وطارت حتّى بلغت غابة رأت فيها صُرَدًا أي شَرَقْرَقًا واقعًا على فرع شجرةٍ يضرب لحاءَها بمنقاره الكبير فخاطبته قائلةً:

- أيّها الشَّرَقْرَقُ! إنّك طائرٌ جميلٌ، ولست بحاجةٍ إلى ذَنَبك ليزيّنك! أَلَكَ أن تُنيلَني إيّاه لأتحلّى به وأصير جميلةً مثلك؟

فقال الصُّرَدُ:

- "يا لكِ من مجنونةٍ غبيّةٍ! إنّ ذنَبي هذا، هو لي كعُكّازٍ أتوكّأ عليه عند تحصيل قُوْتي ولا حياة لي بدونه"!

   فخجلت الذّبابة وانصرفت تُواصل البحث عمّن يُعطيها ذنبًا، حتّى وصلت إلى قلب الغابة، فشاهدت غزالةً وفِلْوَتَها تستريحان في ظلّ شجرةٍ، لهما ذنبان أبيضان جميلان، ففرحت وطنّت وقالت للغزالة الأمّ:

- "امنحيني ذنَبك يا غزالة "!

فدهشت الغزالة من طلبها وقالت:

- "ماذا تطلبين؟ هل أصابك مسٌّ من جنون؟ إذا منحتك ذنبي، عرّضت صغاري لخطر الموت من الوحوش الضّارية"!

   لم تفهم الذّبابة معنى قولها واستفسرت، فأجابتها الغزالة:

- "إذا لحق بي ذئبٌ أو حيوانٌ مفترسٌ آخر هربت منه واختبأت بين الأشجار فلا يراني؛ وذنَبي الأبيض هذا أُومىءُ به إلى صغاري فتراه كالعَلَم، فتعرف مكاني، إذ تهتدي به وتركض إليّ وتنجو مثلي من الخطر"!

   فاقتنعت الذّبابة وصدّقت قول الغزالة الجميلة وتركتها وطافت في الغابة حتّى بصُرت بثعلبٍ، فسُرَّت بذنبه الثّخين الطّويل الجميل الملوّن بالأحمر والأشقر وقالت:

- "إنّ ذنب هذا الحيوان ملك الأذناب وهو يليق بي".

وتوسّلت إلى الثّعلب أن يُعطيها إيّاه؛ فالتفت إليها التفاتةً خبيثةً وقال:

- " أتسخرين منّي؟ إنّي أستعمله لأحتال على  كلاب الصّيد وأنجو من شرّهم. فإن باغتتني أدر ذنبي إلى اليمين وأَعْدُ إلى الشّمال، فتنخدع بذنَبي إذ تسير في اتّجاهه فأخْلُصُ منها بهذه الحيلة".

فغضبت الذّبابة وقالت:

- "أليس في الدّنيا أذناب للزّينة"؟

   وقفلت راجعةً إلى الإنسان تكرّر عليه السّؤال، فوجدته واقفًا بنافذةٍ يستنشق الهواء النّقيّ، فحطّت للحال على أنفه، فطردها، فالتصقت بعنقه وطارت ثمّ حطّت على خدّه وضايقته حتّى قال لها:

- "إليك عنّي أيّتها الذّبابة"!

فدندنت وقالت:

- "لن أتركك هذه المرّة حتّى تُنيلَني مطلوبي! لقد غشَشْتَني وبعثت بي إلى الحيوانات الّتي هي طوع أمرك وقلت لي إنّ لها أذنابًا للزّينة، ولكنّي لم أحصل منها على ذنب قطّ؛ لقد خدعتني"!

حينئذٍ قال لها الإنسان:

- "تطلّعي أيّتها الذّبابة إلى بقرات الحقل، طيري إليها واسألي واحدةً منها: لماذا تستعملين ذنبك أيّتها البقرة"؟

    فقالت الذّبابة:

- "حقًّا إنّ كلامك جميلٌ، ولكن إيّاك أن تغُشَّني هذه المرّة، وسأعمل بقولك للمرّة الأخيرة".

   وطارت الذّبابة ووقعت على ظهر البقرة وقالت:

- "لماذا تستعملين ذنبك أيّتها البقرة؟ وهل أنت بحاجة إليه؟ رُدّي عليّ سريعًا"!

   فسكتت البقرة؛ وكرّرت الذّبابة عليها السّؤال، فأجابتها بضربةٍ من ذنبها الطّويل، أصابتها، فسقطت على الأرض ميْتَةً.

   لا تتعب في طلب ما لا يُستطاع.

   من لم يقنع بما قُسِم له هلِكَ.

                                         يوسف س. نويهض

                                         مقتبسة - بتصرّف -